Wednesday, December 07, 2005

لا يزال مفقوداً

تخليداً لروح الجندي الشهيد خالد النبّوت ولروح كلّ من قاتل من أجل الاستقلال حتى الرمق الأخير… حتى تقسيمه إلى أجزاء كي لا يتقسّم الوطن…

… ما زلت أحسّ كما في السابق… لا أزال أسمع خطواته آتياً من البعيد… وما زلت أعدّ الساعات منذ ذلك اليوم… طال غيابه… اعتقدت في البداية أنّها مشكلة مواصلات… لكن ما كنت أسمعه في قلبي كان غير ذلك… كنت خائفة… نعم كنت خائفة منذ اليوم الأوّل الذي صارحني فيه أنّه ذاهبٌ ليقاتل إلى جنب الجنرال في حرب التحرير… كان يسعى دوماً إلى تطميني فيقول: يا أمي… نحن جنودٌ لا نهاب الموت… ولا تخافي عليّ فلن أموت لأنّ اللّه معي ومع لبنان…انتظرت طول النهار، حتى حلّ الليل… ومن حينها صارت حياتي كلّها ليل… والزمن توقف وقتها… آه… ماذا أقول يا ولدي… كيف أكمل… امتلأت حياتي بالسواد… صرت أسير في شوارع القرية، تائهة… كأنّي في عالمٍ غير هذا العالم… ولدي… ولدي…
آه يا إلهي… ماذا فعلت أنا كي ترمي كلّ هذا عليّ…ماذا أفعل بعد في هذه الحياة… زوجي قتله قطّاع الطرق… واليوم إبني… لكن… لم أعد أعرف شيئاً… حتى تفكيري انشلّ… وكلّ شيءٍ فيّ قد همد حتى الموت…
سمعنا وقتها أنّ بعبدا سقطت… وفي غياب الهواتف أخذني عمّه إلى مركز القضاء… وراح يجري إتصالاته مع معارفه في بيروت… وعاد إليّ الأمل في حينها عندما سمعت أنّ هناك عددٌ من الموقوفين… وبما أنّي لا زلت أراك امامي… كان هذا بصيص أملٍ في البعيد… وقد قال لي قريبي: لا تخافي يا أختاه… صلّي فقط أن يكون حيّاً… صلّي يا أختاه… صلّي… إن كان موقوفاً سأبادله بنفسي، وسأذهب بنفسي إلى المشنقة… صلّي يا أختاه…
في اليوم التالي، أقلّتنا سيارة الأجرة صوب بيروت الشرقية التي كانت تغرقً في الدمار… ويغمرها صمت الموت… لاقانا أحد الأقرباء الذي أعلمنا أنّ العدد الأكبر من الجثث نقل إلى براد مستشفى بعبدا الحكومي… على أبوابه رأيت طيف الموت وهو يملأ كيسه من شرفاء الوطن الذين قتلهم السوريين… هل أستطيع أن أصف أو أقول بماذا شعرت… لم أكن أستطيع الرؤية ولا سماع ما يدور حولي… وعلى جهتي الطريق المؤدي إلى ذاك البراد المشؤوم أكياساً تحوي قطعاً بشرية… كدت أقع في الأرض من شدة الغثيان لو لم يساندني قريبي، الذي حاول جاهداً إقناعي بعدم الدخول… لا أعرف من اين حصلت على القوة لأدخل… ورحت أنبش وأنظر… والجحيم يحرق قلبي إذ أنّ كلّ واحدٍ منهم كان يمكن أن يكون إبني… لكنّي لم أجده هناك…
قضيت تلك الليلة وأنا أصلّي، وكنت أنظر صوب بعبدا قائلةً: أرجوك يا إلهي… لم أطلب منك الكثير في حياتي… وأنا امرأةٌ خاطئة… أرجوك ارحمني… ارحمني يا رب…
في اليوم التالي ذهبنا إلى قيادة الجيش، ولم يكن إسم ابني بين القتلى… لكن لم يكن هناك من يعرف عنه شيئاً… وما زاد من المي حينها كان عندما اقتربت راكعةً من أحد الضباط سائلةً إياه ان يساعدني، فلم يحرّك ساكناً رغم صراخي وأنا أقول له: أليس لك ابنٌ؟… أليس لك أخٌ… اعتبرني عدوّتك، اعتبرني ما تريد لكن قل لي كلمة واحدة…
قضيت النهار والليل باكيةً، دون التوقّف ولو لدقيقة واحدة عن الصلاة… ولكن ما من خبر… كلّ ثانية أتخيّل أنّي أسمع صوته… أتخيّله آتياً… رحت أقنع نفسي… ماذا لو يكون متخفياً أو مختبئاً في مكانٍ ما… لا… لا يمكن… فهو لا يفعل ذلك ولو على حياته… أيعقل أن يكون مخطوفاً أو محتجزاً… أيعقل… آه يا إلهي… لا، لا يعقل ان يكون قد مات… فأنا لا أزال أحسّ بنبضات قلبه… أرجوك يا إلهي… أرجوك…
وما زلت انتظر…
نعم… منذ ذلك اليوم وأنا أنتظر عودته… ولكن ما من مجيب…جفّت مآقيّ وتحجّرت…
البكاء كلّ يومٍ أحرق روحي… لم أعد اقوى على الحراك… فأنا مصلوبة كلّ النهار امام صورته في الغرفة… أشتمّ رائحته… وأقلّب ثيابه… وأنا ما زلت أغسلها كلّ أسبوع منتظرةً علّه ياتي… لكن لا أحد يردّ علي…ما تركت كنيسةً إلا ومشيت إليها حافية… حتى أنّي طرقت أبواب المشعوذين الذين بددّوا كلّ أموالي… وما من مجيب…
رفضت أن أتقاضى راتب إبني… فهو قاتل من أجل قضية…
دعاني أحدهم لدخول جمعية للمطالبة بالمفقودين، فكدت أتعرّض للاعتقال لأنّي تلاسنت مع القوى الأمنيّة ولعنت دولةً شقيقة…
كان الكلام ممنوعاً… ومن منعنا هم هؤلاء الذين يقولون اليوم أنّهم الربيع الذي حرّر لبنان…
يومها عرفت يا جنرال لماذا أحبّك إبني… أحبّك لأنّك رجلٌ صادق… جامدٌ كجلمود صخرٍ… لا تغيّر أقوالك مع الأهواء ولا ترمي بأبناء وطنك… لا بل أؤمن أنّك ستقودهم يوماً ما إلى النصر والإستقلال الحقيقي…
لقد ضجرت نفسي من بائعي الكلام والوعود الكاذبة…
لقد كللت… لم أعد إنساناً…
لم أترك باباً إلا وطرقته… لكن ما من مجيب…
اشتقت لابني… اشتقت له…
لم أعد أقوى على الإنتظار…أين يمكن أن تكون؟…
في كلّ مرّةٍ أطرح إسمك على أحد العائدين… منهم من يقول أنّه رآك… منهم من سمع باسمك… لكنّك لا تزال مختفياً…أسمع أنّات ألمك من نوافذ السجن المحتمل… وأرى أمام عيني انهيارك أمام ضربات المعذّبين الوحشية…
ما تركت يوماً إلا ولعنت فيه كلّ من مدّ يده عليه وعذّبك…ولا أزال…
واليوم، أسمع بمقابر جماعية تنقب…
لكنّي لم أعد اقوى على المشي… وليس لديّ قدرةً على رؤية العظام…
لا أعرف ماذا اقول…
لم أعد أقوى على شيء…
أتمنى أن تكون حيّاً…
أتمنى يا ولدي…
أعرف أنّ إسمك لن يذكر في كتب التاريخ… لكنّي اعرف أنّك ممّن صنعوا التاريخ والحاضر والمستقبل…
أتمنى أن أراك قبل أن يداهمني الموت…حياّ أو ميتاً…
وإن متّ قبل أن يجدوك، وصيتي هي بأن يضعوا رفاتك بقربي كي أحضنك إلى الأبد…

0 Comments:

Post a Comment

<< Home